الذاكرة تعود إلى «حلم الانجاز» والواقع مختلف.. ومحبط احياناً
شعار يرفعه المتفائلون.. «لا يأس مع الحياة»!
الرياض - أسمهان الغامدي
المتقاعدون أفراد قاموا بنحت الصخر على مسيرة امتدت أعواماً كثيرة، وصل بعضها إلى 35عاماً، وجهد وتفان في سبيل الأسرة والوطن، منهم من شعر أن المطاف انتهى به منذ صدور قرار تقاعده، ومنهم من بدأ مسيرة أخرى لا تقل بإنجازاتها عن رحلة كفاحه الأولى،
فالمتقاعدون والمتقاعدات بأعدادهم المتزايدة هم جزء لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية للأمة، ولقد كتبوا تاريخ يفتخر بإنجازاتهم وقدراتهم وخبراتهم، منها نستسقي تغذية رجعية لذاكراتنا حتى لا نضل الطريق.
أرقام ونسب
بلغ عدد المتقاعدين المنتهية خدماتهم إما لبلوغ السن النظامية أو التقاعد المبكر، أو العجز الصحي أو الوفاة، المستحقين للمعاش المشمولين بنظام التقاعد خلال العام المالي 1430/1431ه (2009م) (29911) متقاعداً، كما بلغ عدد المتقاعدين لبلوغ السن (17183) متقاعداً أي نسبة (57%)، والتقاعد المبكر (5717) متقاعداً بنسبة (19%)، والعجز (4746) متقاعداً بنسبة (16%)، والوفاة (2265) متقاعداً متوفى بنسبة (8 %).
تركوني عند التقاعد
يقول الضابط المتقاعد «محمد أحمد»: كنت أهم شخص في العائلة وأنا على رأس وظيفتي من قبل أهلي وأصدقائي، الكل يطرق بابي، رنين هاتفي يكاد لا ينقطع، آمنت بمحبتهم لشخصي ونسيت قول الشاعر: «إن قل مالي فلا خل يصاحبني .. وإن زاد مالي فكل الناس خلاني»،
مسترجعاً ذاكرته عندما كان يتجمع إخوته وأخواته وأبناء عمومته حوله في كل مناسبة؛ نظرا لرتبته القيادية وكلمته المسموعة في المصالح الحكومية، ثم تذكر كيف أنه منذ يوم تقاعده ولمدة ثلاثة أعوام لم يعد أي منهم يقصده أو حتى يسأل عنه، مضيفاً: «خذلوني، مررت بمواقف عصيبة لم أجد فيها أيا منهم ولا حتى بسؤال، لا أنكر تمكن اليأس والإحباط مني حتى اليوم الذي قررت فيه أن أبدأ مسيرة جديدة، وأن انفض الحزن والاحباط واليأس وأريهم أنني لازلت قوياً قادراً، لم يكسرني التقاعد»، مشيراً إلى أنه ما إن بدأ بمشروع صغير وأعطى له بعض الثمار، إلا ووجد أولئك المتنافرون من حوله عادوا يبحثون عن وده، حيث صنع له اسماً بين التجار في فترة قصيرة، وأصبح لديه مؤسسة خاصة.
فراق صعب
بينما تذكر «سعاد عسيري» -معلمة متقاعدة- قصة كفاحها في التدريس خلال 35 عاماً من العطاء والإنتاج من خلال صناعة الأجيال وغرس المبادئ والقيم، فتقول: أمضيت فترة عملي وكانت مليئة بالمحبطات والآمال، سنوات مضت لي لم أضع بالحسبان يوماً بأنها مرحلة وستنتهي، أصبحت الطالبات والمناهج بدمي وقطعة من قلبي، حتى جاء قرار تقاعدي فكان بمثابة الحكم بالموت بالنسبة لي، مضيفةً أنها حاولت تجاوز مرحلة التقاعد بالانخراط في دار لتحفيظ القران، استطاعت من خلالها تجاوز مرحلة التهميش الداخلية التي كانت تشعر بها ولا تتجاوزها، ومن خلال تلك الدار عادت مجدداً لها الروح، حيث أصبحت معلمة مرة أخرى، وكأن التقاعد كان لها بمثابة الجرس الذي يخبرها أن الحياة مراحل ومحطات، فمهما غابت محطة ستواجهها أخرى، وعن أهم انجازاتها التي تفتخر بها، أكدت أنها لم تحفظ كتاب الله إلا بعد تقاعدها، الأمر الذي يعد نقطة تحول هامة في حياتها ولآخرتها.
مت .. قاعد
في الجهة المظلمة المحبطة يقول الطبيب المتقاعد «علي إبراهيم» عند سؤاله عن أهم الإنجازات التي حصدها: لكل امرئ له من اسمه نصيب، فالمتقاعد أخذ من اسمه أوفر الحظ والنصيب، لأنها تحمل معنى (مت قاعد)، وأنا كذلك سأموت وأنا قاعد، مفسراً قرار تقاعده بمثابة صك إقرار من الدولة بعدم كفايته وقدرته على العطاء، وإخباره بأنه قد عاش أكثر مما ينبغي!، ونكر أي انجاز حصده خلال سن عمله، مشبها انجازاته بفقاعة الصابون ولا يود تذكر أي «كذبة» عاشها كما وصف، لافتاً إلى أنه شعوره بالإحباط والذي بدأ يتسلل إلى جوفه، حاولنا مسح تلك النبرة المهزومة ووضع الاقتراحات التي من الممكن أن تنعش روحه فسألناه: لماذا لا تفتح عيادة أو تصبح مستشاراً لطلبة الامتياز؟، فقال: لم تصلوا حتى الآن إلى الوقت الذي فيه تستلمون صك إقرار المجتمع على عدم فائدتكم، حينها فقط ستفهمون عدم جدوى تلك المقترحات.
مستودع أسرار
أما «محمد مصباح» -تقاعد قبل عشر سنوات من مهنة التدريس- فيرى في التقاعد مرحلة صعبة، لكن يمكن العبور منها بسلام، مضيفاً: «في الشهور الأولى لتقاعدي كان شعوري بالإهانة عظيماً، ويكاد يصبح هماً إضافياً أسير به وسط الناس، كان مجرد أن يمد لي أحد أبنائي يده بمال كأنه صفعني، وإذا أحضرت لي إحدى بناتي هدية، فكأنما تخبرني أني عاجز عن الاتيان بكل جديد لنفسي و لهم»، معترفاً أن أولاده تحملوه في تلك الشهور تحملاً عظيماً و أدرك ما كان لا يعرفه عنهم، أدرك كم كانت والدتهم عظيمة -رحمة الله عليها-، وكيف غرست في نفوسهم احترامه ومحبته، سواء أكان قادراً على تلبية احتياجاتهم أو غير قادر على ذلك، لافتاً إلى أنه قد خفت حدة حساسيته مع مرور الشهور، ولم تمض سنة حتى انتهت حساسيته المفرطة، وشعر مجدداً بأهميته من خلال ما يستقيه من أحفاده، وحرص أبنائه على غرس احترامه ومحبته في نفوس أبنائهم، ذاكراً أنه تحول إلى مستودع أسرار أبنائه وأحفاده، وكل من يعاني من هم أو مشكلة لا يجد بديلاً عن نصائحه وارشاداته